"هذا قد يحدث مع أي منا"، باتت هذه الكلمات الحزينة تتكرر كثيراً في حانات ومقاهي مدينة دهب المصرية هذا الصيف، بين جماعة الغواصين هناك، وهم يُشكّلون عدداً كبيراً في هذه المدينة الساحلية المصرية الواقعة بمحافظة جنوب سيناء.
بات هؤلاء الغواصون المحترفون يقولون: "إذا حدث هذا مع ستيف، فقد يحدث مع أي شخصٍ آخر"، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
ففي الشهر الماضي، يوليو/تموز 2017، غرق ستيفن كينان، البالغ من العمر 39 عاماً، والقادم من العاصمة الأيرلندية دبلن، بينما كان يُشرف على غوص أليشيا زيتشيني، التي تحمل رقماً قياسياً عالمياً في الغوص الحر.
عندما كانت الغطّاسة الإيطالية، البالغة من العمر 25 عاماً، تحاول عبور منحنى الجرف المائي في موقع الـ"بلو هول" سيئ السمعة بالبحر الأحمر باستخدام نفسٍ واحدٍ فقط، شعرت بفقدان تركيزها. سارع كينان إليها لمساعدتها وإرشادها إلى سطح الماء. وتمكنت هي من النجاة دون أن يلحق بها أي ضررٍ، بينما فقد هو وعيه، وعُثر عليه طافياً ووجهه لأسفل على سطح الماء على مسافةٍ بعيدة.
وكان كينان يمارس رياضة الغطس الحر Freediving، وهي طريقة للغوص يكتم فيها الغواصون أنفاسهم، ويعودون للسطح بدلاً من استخدام معدات الغوص.
وكان ستيفن منخرطاً بشدة في مجتمع الغطس الحر في دهب المصرية. كذلك كان مالكاً مشاركاً في مدرسةِ غطسٍ محلية شهيرة للغاية، تُسمى "دهب فريدايفرز".
عبر عمله كغطاسٍ متخصص في تأمين محاولات الغوص، كان كينان واحداً من أفضل العاملين في مجاله. وألقت وفاته بظلالها على هذا الصيف، وأطلقت تحذيراً واضحاً بشأن خطورة الغطس في واحدٍ من أخطر مواقع الغطس في العالم على الأرجح.
الـ"بلو هول" هو تجويفٌ مائي يصل عمقه إلى 120 متراً، ويقع على بعد خمسة أميال شمالي مدينة دهب.
ويشتهر الموقع باسم "مقبرة الغطّاسين". ورغم هذا، يواصل آلاف الأشخاص تدفقهم إلى هذا الموقع كل عام، غير منزعجين من تزايد عدد اللوحات المُعلّقة على سطح الجرف المائي المقابل للتذكير بهؤلاء الذين لم يعودوا مطلقاً.
وفي ظل عدم وجود سجلاتٍ رسمية، يصعُب تحديد عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم في موقع الـ"بلو هول". لكنَّ الغطّاسين في دهب يشيرون إلى وفاة ما يقرب من مائتي شخصٍ خلال السنوات الأخيرة. وأحد هؤلاء الذين لا يجرؤون على تخمين عدد الذين لقوا حتفهم أثناء الغطس هو طارق عمر، البالغ من العمر 53 عاماً. فعبر عمله كغطّاسٍ في دهب، بدأ عمر في استكشاف الموقع في عام 1992، مبهوراً بقصة اللعنة التي حلّت على المكان عندما غرق ضيوف حفلة زفافٍ هناك.
ذاع صيت عمر في عام 1997، عندما تمكن من انتشال جثامين الغطّاسين كونور ريغان ومارتن غارا من الماء. ويقول عمر: "كانت هذه أولى الجثامين التي تُستعاد من البلو هول".
وتابع قائلاً إنَّه أخرج أكثر من 20 جثة من الماء منذ ذلك الحين، مستحقاً اللقب الكئيب "جامع العظام".
وخلال السنوات الأخيرة، عندما أصبح الغوص التقني (وهو نوعٌ من الغوص يشمل عادةً التنفس عبر مزيجٍ خاص من الغازات) أكثر رواجاً، شاهد عُمر ارتفاعاً في عدد حالات الوفاة.
ويشكّل وفاة الغطّاسين المحترفين في الغطس الحر مثل كينان مصدر قلقٍ متواصل وسط انتشار شعبية هذه الرياضة منذ صدور فيلم "The Big Blue" للمخرج الفرنسي لوك بيسون، الذي لفت انتباه العالم إليها.
بينما يؤكد آخرون أنَّه طالما يؤدي الغطاسون واجبهم، ويتوخَّون الحذر أثناء التدريب، فإنَّ موقع "البلو هول" لا يستحق هذه السُّمعة المخيفة. كما تقول المدرّبة أليكس هيس: "ليس الموقع بهذا القدر من الخطورة".
انتقلت أليكس، التي تعود أصولها إلى مدينة بريستون البريطانية والبالغة من العمر 32 عاماً، للعيش في مدينة دهب منذ سبع سنوات. وتُدير مركز "إتش تو أو" للغطس. غطست أليكس في البلو هول عدد مرات لا تحصى، وتُرجع سبب عدد الوفيات المرتفع هناك إلى "تصرف الناس بغباء".
وتؤكد أليكس أن غالبية الوفيات تحدث في الأساس بسبب غرور الغطّاسين. فتقول: "يغطس الأشخاص 100 مرة، ويظنون أنَّهم يعرفون كل شيء عن الأمر. لكنهم غير مستعدين للغوص في عمقٍ كهذا. قد تكون قلة المعرفة أمراً خطيراً".
كان غالبية الأشخاص الذين قضوا نحبهم يحاولون السباحة أسفل منحنى الجرف المائي. ويُمثل هذا تحدياً للغطّاسين كتحدي تسلق جبل كيليمنغارو بالنسبة لمتسلقي الجبال.
فعند عمق 56 متراً، يختفي الجدار البحري كاشفاً عن كهفٍ، وهو عبارة عن نفقٍ يصل طوله إلى 26 متراً يربط البلو هول بالبحر المفتوح. ويواجه هؤلاء الذين يهبطون إلى عمق 100 متر فتحةً يصل ارتفاعها إلى 50 متراً، وتؤدي إلى البحر الأحمر. وتقول أليكس: "إنَّه مكانٌ جميل. لا مثيل له. وكأنَّك تقف في كاتدرائية تحت الماء".
لكن يمكن أن تتسبب هذه التجربة في فقدان التركيز. فقد ذكر غطّاسون رؤية ضوءٍ صادرٍ من النفق، ما جعلهم يظنون أنَّه قادم من سطح الماء، ودفعهم هذا إلى السباحة إلى أسفل نحو مصدر الضوء. وفي مثل هذا العمق، يمكن أن تصاب بحالة تُعرَف باسم سُكر الأعماق، والتي يتسبب خلالها تنفّس الغازات تحت ضغطٍ مرتفع في اضطراب حالتك العقلية، وأحياناً الجسدية.
ويقول الطبيب جيمس كاروسو، رئيس هيئة الطب الشرعي في مدينة دنفر، عاصمة ولاية كولورادو الأميركية، والغطّاس المتحمس لهذه الرياضة، إنَّ حالة سُكر الأعماق تسمى أحياناً "تأثير شراب المارتيني"، إذ ترتفع نسبة تسمم دم الغطّاس ليصاب بتأثير مشابه لتأثير شرب المزيد من المشروبات الكحولية عند مواصلة الغوص نحو الأعماق.
ويقول كاروسو إنَّ هذه الحالة تصيب الغطّاسين بدرجاتٍ متفاوتة، مثل شرب الكحوليات. ويتابع: "لا يوجد أحدٌ محصنٌ ضد الإصابة بهذه الأعراض، وإذا وصل الغطّاس إلى عمقٍ كافٍ، يمكن أن يفقد أو تفقد الوعي". أضف هذا إلى حالة التسمم بالأكسجين، عندما يُصبح الغاز ساماً تحت الضغط المرتفع، وستُدرك أن أي شخصٍ يواصل التنفس في هذا العمق توشك حياته على الانتهاء.
يمكن التغلب على هذه الآثار باستخدام المعدات المُتخصصة. ويسبح الغطّاسون التقنيون مثل عمر وأليكس أسفل منحنى الجرف البحري بصفةٍ متكررة، لكنَّها رياضةٌ مكلفةٌ تتطلب الكثير من التدريب، ولا يرغب الكثيرون في قضاء ساعاتٍ في التدريب. يقول عمر عن هذا: "يريدون الوصول إلى المياه العميقة قبل الوصول إلى المعرفة العميقة".
يحظر القانون حالياً دخول الغطّاسين غير المؤهلين إلى موقع البلو هول مطلقاً. وفي ظل تفعيل المزيد من القواعد السليمة، ترى أليكس أنَّ الموقع يستحق تغيير لقب "مقبرة الغطّاسين" بلقبٍ آخر.
وتضيف: "إذا نظرتَ إلى عدد حالات الوفاة في العالم، ستجد أنَّ البلو هول أقل بكثير من أماكن أخرى. وحتى إذا ما قارنا بين مصر وبريطانيا، أعتقد أنَّ عدد الوفيات في بريطانيا أعلى".
لكن بينما يحاول الغطّاسون الدفع بحدود هذه الرياضة إلى مستوياتٍ أعلى، لا تختفي الأخطار الجديدة مطلقاً.
ويقول عمر إنهَّ لم يُصدّق مطلقاً لعنة البلو هول، لكنَّه بات مقتنعاً بشيءٍ واحدٍ فقط بعد قضائه نحو 20 عاماً وهو ينتشل الجثامين من هذا الموقع، وهو أنَّ "الأشخاص الذين يغطسون هنا هم من صنعوا لعنتهم الخاصة بهم".